قبل عامين، نظم معهد العالم العربي في باريس، معرض الفن الاسلامي، كسابقة احتضنت لأول مرة في العاصمة الفرنسية، من قبل إدراة المعهد التي ترى بوجوب تعريف الناس على هذا الفن، الذي اشتهر كإرث قائم بحد ذاته، وليس كحركات مستقلة أو متتابعة. 471 عملا بأحجام، وتكاوين وتشكيلات مختلفة تراوحت بين الخزف والزجاج والرسم والتصاوير والنحت والنجارة والنسيج والسجاد والخط العربي والأسلحة كالسيوف والخناجر، والمجوهرات وأدوات الزينة المختلفة، وحتى صناعة الحيوانات المعدنية.
ربما لا يعرف العالم "الغربي" الكثير عن الفن الاسلامي، لكن السؤال يبقى، هل يعرف العالم العربي بهذا الفن. المسؤولة عن هذا المعرض، السيدة أوريلي رويز، قالت في معرض سؤالنا: "بعد جمعنا القطع المعروضة كلها من المليونير ناصر ديفيد الخليلي، عمدنا إلى تعريف القارئ الغربي، على ماهية الحضارة الاسلامية من خلال الفن، ولذلك أهمية كبرى في تقديم الإسلام كإيديولوجيا لا تتأسس على العنف، بل على الجمال، ونأمل من خلاله أن نحدث تغييراً في الستيريوتايب المعمم في أوروبا بشأن الاسلام". وللحقيقة، فإن لناصر ديفيد الخليلي الفضل الأكبر في وضعنا وجها لوجه مع هذه الخصوصية التي تمتع بها الفنانون. فهو الجامع الأبرز لقطع الفن الاسلامي، وهو الذي يسعى وراءها في المزادات العلنية العالمية. يقول في إحدى المقابلات، بأنه مهتم بالتعرف على حضارة جيرانه الاسلام، الأمر الذي سيمكنه في الحال من فهم ديانته. فناصر يهودي، وعمله في جمع التراث الفني الاسلامي، والمحافظة عليه، فإنما ينم عن وعي عميق بالحضارات وشغف بالفن عموماً. وقد قام بطباعة كتيبات عن الفن الاسلامي وزعت في جميع أنحاء أوروبا ووصلت فلسطين.
وعلى كل حال، فإن الفن الاسلامي لم يتأسس على شكل تيارات، أو مدارس ولم تبرز أسماء بالطريقة التي هي عليه حاليًا. إلا أنه ارتبط بحقبات، وبجغرافيا. ولذلك فإن الإيديولوجيا الشيعية حضرت بكثافة في أعمال فناني بلاد فارس، وبالتالي طغت عاشوراء، وواقعة مقتل الإمامين الحسن والحسين، والمهدي المنتظر وعيسى المسيح، على الكثير من التصاوير، والرسومات المنجزة على ورق البردى او القماش بدرجات فخامته المختلفة. نجد الكثير من الأعمال التي تصور مباشرة معادلة الخير- الشر، وبالتالي انتصار الأول النهائي على الأخير. عدو كالأعور الدجال، يحضر بكثافة مثلا، يتم ذلك بإحالته إلى عنصر الشر عبر تصويره بملامح غير "بريئة"، ومن ثم غلى العنصر الأضعف في اللوحة، بعد تواجهه مع السيد المسيح، الذي يقتله تحت مرأى حليفه الإمام المهدي المنتظر. تحضر أيضا الجنة والنار كطرفين نهائيين، يتم فرز البشر حسب أعمالهم، وتبدو الملائكة مشغولة بتنظيم هذا الامر. يحق القول بأن هذه الأعمال ولما فيها من جرأة، فإنها تبعث على الدهشة اولاً قبل أن تحرضنا على الانهماك في دراستها عن قرب، لرصد أدنى التفاصيل في الخط واللون والظل والبعد الثالث في اللوحة، والذي يبدو فقير الحضور. من هنا، يبدو الفن الاسلامي، خاضعًا تمامًا لإرادة الفكر الديني. فليس ثمة متنفس أمام الفنان لتكريس الإنسان في اللوحة، أو العامل البشري، وهو يستمد إلهامه بشكل مباشر من النصوص الدينية الجاهزة. من هنا، يغيب حضور العامل البشري، لمصلحة بروز الفكر الإسلامي، الذي يخضع أيضا الفنان، فلا يوقع هذا الأخير إسمه، ويترك لوحته أو عمله للتاريخ متنكراً أحياناً لأي إحساس وجودي ممكن أن يجتاحه ولو للحظة.
وبشكل عام، فإن الفنانين المسلمين لم يكونوا ليوقعوا أسماءهم على الأعمال المنجزة، بل كانوا يحيلون هذه الأعمال إلى غرض وظيفي، يقف في ظهر الدين، أو لغرض عملي منزلي أو شخصي. لم تحتل اللوحة أو العمل عموماً مساحة في الذاكرة الشخصية، بعيداً عن المساحة المتعلقة مباشرة بالنص الديني، والتي غايتها الاحتفاء بالعمل الصالح وارتجاء الثواب وتجنب العقاب. أعمال بدورها، لم تكن لتستقل بذاتها في تلك الفترة، كقيمة فنية، بل كانت خاضعة بالكامل للقيمة الإيديولوجية ااتي تشكل مظلتها. وهي أعمال تظهر بوضوح تأثر العرب والإسلاميين بالفن الصيني، والزخارف في الإمبراطورية القديمة، كما وتطال أيضا في بعض أوجهها تأثراً أو تشبها بالفن البيزنطي. وعلى كل حال، فإن هذه الأعمال، ونتيجة لتغيرات في ميزان القوى ما بين الشرق الغرب تحديداً، وبروز العالم الغربي بعد الثورة الصناعية، ليحكم الكوكب، قدر لها بعد عشرات أو مئات السنين، أن تصحو كأعمال ذات كينونة خاصة، لها أبعادها التي لا تتقاطع بالمرة مع أي من المدارس التي كانت ناشئة في العالم الغربي. وفي حين كان الفن في أوروبا خاضعاً لمقاييس طالت أولاً إيديولوجيا الكنيسة وتمردت عليها (موناليزا ليوناردو دافنشي) في القرن السادس عشر، قبل أن تطال الكادر الإنساني وتتلاعب في الظل واللون والضوء، ومن ثم الطبيعة الصامتة والتلاعب بملامح الأشياء وتكسيرها ضمن سجالات حادة بين أتباع الفن، ومشتغليه ومن ثم تجريد اللوحة قبل مزج الأشكال الفنية العديدة والعناصر وامتداد الفن ليطال كل شيء، ومن ثم الانقلاب على الفن باعتبار أن كل شيء هو عمل جاهز، أو يختصر قيمة فنية جاهزة..إلخ، كل هذا السجال الذي امتد لحوالي ستة قرون، في أوروبا، لم يكن ليطال باي شكل من الأشكال الخصوصية الاسلامية، نظراً للتحصينات المفروضة عليه باسم إيديولوجيا الإسلام.
ولذلك، فقد شهد هذا الفن من ناحية، عزلة عن الجمهور العام، العالمي، كما لم يتسنى للعالم الحديث، التعمق فيه بالشكل الذي يستحق. وبالطبع لا ننسى كذلك، أن هذه النص الاسلامي، لم يمنع بعض السلاطين والملوك، من أن يسخروا الفن احياناً لتكريس وجودهم، لكن، وبما أنهم حكموا بإسم الإسلام، وبما أن طغيان الحضارة الإسلامية، هو ما طبع بلاد العرب وفارس وبعض الجوار، فإن تلك الأعمال اعتبرت كافة، أعمالاً إسلامية جوهراً ومضمونا. فالحاكم هو حاكم بأمر الله وهو الخليفة وولي المسلمين والناظر الأرضي الأول بشأنهم. ومن هنا، خلت البيوت من اعتبارات الزينة، إلا من بعض الأعمال كالرسم الذي يصور مثلا الطواف حول الكعبة أو يوم الحساب، أو علامات الآخرة (نزول السيد المسيح من السماء الثانية، ظهور المهدي المنتظر، الأعور الدجال،..). ليس الفن إذن ترفيهياً، وهو يحمل أقصى معاني الجدية، لكنه أيضاً يحمل الراحة للإنسان والتصالح مع ذاته (الفردية) وفهمها للتصالح مع التعاليم الإسلامية والدفاع عنها (الجماعية). لكن هذه الذات تتقاسمها نزعة سلفية أو نزعة صوفية، فالفرد هنا ممنوع أن ينأى بذاته المستقلة، وهو على علاقة مع الله، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، والقيمة الإنسانية ضحلة وقصيرة الملامح. وهذا ما كان السبب الرئيس في بناء القصور والعمارات، ذات الأبواب الضخمة والشديدة الجمال. إضافة إلى الاهتمام بالتصميم الداخلي للغرف وصناعة السجاد والأسرّة، والسيوف والخناجر والخوذ والدروع، وهو كله لتحصين الذات ورفع معنوياتها وحمايتها نفسياً وفيزيولوجياً وتهييئها للدفاع عن المقدس الإسلامي. ولهذا برز فن النجارة (الأرابسك، المعشقات، والمفروكة) بأساليب رفيعة ومنجزات بالغة الجمالية ومتناهية الدقة في تفاصيلها، كما وفن الحدادة والعمل بالمعادن الذي أنتج تصاميم للمجوهرات والمصوغات والحلي والاواني، وتفنن في دمج الجمالية الدينية (الخط، اللون)، بالجمالية المادية (المعدن: الذهب والفضة تحديدا).
لكن الفن الاسلامي، لم يعنى بالأبعاد الثلاثة، ولم يهتم فنانوه بداية إلا بتصوير بعدين، واختزال البعد الثالث. ولم يقدموا اتجاهاً واضحاً في لوحتهم. كما انهم لم يعنوا بالأحجام الكبيرة لأعمالهم الهندسية او التصويرية (باللون). ربما لم يعنيهم الأمر، إلا أن النقص الذي تركوه في أعمالهم، هو بمثابة اكتساب لصفة غير متوقعة إلى حد ما. فعندما نقف في وجه لوحة تحمل بعدينن فإن اللعبة تكون بصرية صادمة ومدوخة في بعض الأحيان، فالأشكال المرسومة (الأشخاص، الوجوه، الأحصنة، الأمكنة،..)، تفترض البعد الثالث، لكنه بعداً مفقوداً ما يداعب مخيلتنا ويدغدغ حاسة البصر، حتى لنكاد نتوهم بأنه ما يعرف أحيانا بالـ (conceptual art). تقول بعض المصادر إن الفنانين لم يقربوا بتاتاً رسم النبي محمد، نظراً لتحريم تصوير الأنبياء. ما جعلهم يلجئون إلى الخط للتفنن فيه، وإيداع طاقاتهم في عالمه بابتكارهم أشكال وانواع غير معروفة من قبل. وقد تمازج الخط ببساطته، وفقر مادته (الكثير من الأعمال اقتصرت على الحبر)، مع براعة التشكيل والتأليف بين مطارح هذا الخط، الذي سيعتمد من قبل لخط القرءان بأحجام ومقاييس مادية مختلفة (إختلاف المادة من الورق إلى الزجاج والفخار والعاج والجلود والعظام والخزف والأحجار الكريمة..إلخ). إلا أن مجموعة الخليلي المعروضة في المعهد العربي في باريس، تنافي هذه المقولة إذ إن بعض الأعمال تصور النبي محمد دون أن تظهر ملامح وجهه. تصور قامته كاملة، لكن مع مسحة بيضاء على الوجه. في معظم هذه الرسوم تستخدم الالوان الترابية وتدرجات الازرق (لون سماوي)، إضافة إلى الذهبي (كدلالة تفخيم، اعتمدت بكثرة في القرن التاسع عشر). أما الخلفية فهي متروكة للون مادة الورق الأصلي، وفي الكثير من اللوحات، لم يعن الفنانون بتأليف الخلفية اللونية لأعمالهم. كانت الرسالة واضحة ومباشرة، وخاضعة بشكل توتالي للنص الإلهي. لكن هذه الأبعاد ستشهد تطويراً اوتوماتيكياً، خصوصاً في التصاوير البارونامية للكعبة والطواف حولها، إذ لن يعود الخط محصوراً ببعدين دون الثلاثة، بل سيحاول اقتحام العين والبعد الثالث دون أن ينجح، لكن ذلك سيضفي جمالية غير ملحوظة من قبل. وبأي حال فإن الفن الاسلامي جنح نحو ابتكار أساليب تعبيرية جديدة منذ القرن التاسع. دون أن يكون لذلك علاقة بقومية معينة أو عرق.
المعرض (شتاء وربيع عام 2010)، شمل إضافة إلى ما حاولنا الإشارة إليه، قماشة كانت تغطي الكعبة المشرفة قديماً، إضافة إلى مصحف هائل ملفوف على بعضه، وكان بطول ستة أمتار. والأعمال كافة يمكن ان تقدم لنا ثلاث دلالات أولها ما يدل على العلاقة القائمة والوثيقة ما بين ما هو فن وما هو مقدس، وثانيها ما كان لأصحاب القرار في المناطق الخاضعة للحكم الإسلامي، من نفوذ حتى استطاعوا التأثير لابتكار أساليب جديدة، أما ثالثها فهو التحرر من الحواس، ومن مقاييد الإنسان وأعضائه والنفاذ إلى عناصر العالم المحيط بنا.